تتناول المقالات التي جمعت في هذا العدد كتابات جول روانيه عن الموسيقى في المنطقة المغاربيّة، بعد مرور مائة عام على نشر مقاله التاريخي في أنسيكلوبيديا الموسيقى ومعجم المعهد الموسيقي[3]. ونحن نفعل ذلك مع إدراكنا الكامل بصعوبة وتعقيد المهمة، فمن جهة، تظل دراسته للموسيقى العربية في المنطقة المغاربيّة الدراسة الأكثر طموحًا، والتي لم تحظ حتى الآن إلّا بقدر متواضع من الاهتمام الأكاديمي. ومن جهة أخرى، تأثّر هذا العمل بشكل عميق بأحكام مسبقة لمؤلفه وسياقه الاستعماري. وبالتالي، فإن أي تعامل جدي مع فكر هذا الباحث يجب أن يتصارع مع مسألة ما يجب فعله بالدراسات والبحوث الاستعمارية في وقتنا المعاصر المتميّز بدافع فكرة "التخلّص من الاستعمار" في العديد من المجالات العلمية.
عندما اقترح زميلنا الأستاذ الراحل حاج ملياني هذا المشروع لأول مرة في ديسمبر 2020، كان أملنا هو جمع عدد من الإسهامات التي تكون قادرة على أن تأخذ مقال روانيه عام 1922 على محمل الجد. لم يكن الهدف تكريمه، بل كان إجراء دراسة عمليّة وعلميّة للمقال في جوانبه المتعددة، مع دراسة موازية للمقال الذي يحمل عنوان "الموسيقى العربيّة"[4] كونه دراسة تكميلية تتركّز أساسا على المشرق العربي، والذي نُشر أيضًا في صفحات الموسوعة (Rouanet 1922 and 1922a)[5]
تشمل الإسهامات الموجودة في هذا العدد، السياق الذي نشأ فيه المقال، أهم الأشخاص الذين حاورهم الباحث، أحكامه، قراؤه ونقاده، والسياق الثقافي والسياسي الأوسع الذي واكبه. تتضمن الإسهامات أيضًا أعمالا عن الموسيقى التي كان يكتب عنها، سواء في عصره أو خلال المائة عام التي تلت نشر مقاله. ومن ثَمّ، فإن هذه الإسهامات ستكون بمثابة قراءة نقدية واستعادة لعمله باعتباره أحد مصادر المعرفة حول الممارسات الموسيقية في المنطقة المغاربيّة.
لقد أصبح من الضروري أن يٌخصّ مقاله بالاهتمام، انطلاقًا من الاقتناع بأنه تم تجاهله لفترة طويلة جدًا نظرا لأسباب عديدة ومعقدة[6]، ففي الوقت الذي يتم فيه الاستشهاد به بشكل مستمر من قِبَل العلماء والموسيقيين الجزائريين في الوقت الحاضر، فإنه لا يمكن إنكار أنه ينتمي إلى حقبة استعمارية واجهها المثقفون الجزائريون بشكل من التناقض والتردد[7]. غالبًا ما يتم ذكره في الدراسات الموسيقية حول المنطقة المغاربيّة على نطاق أوسع، باعتباره واحداً من مجموع الباحثين الأوروبيين الذين عملوا في السياق الاستعماري خلال فترة ما بين الحربين العالميتين جنبًا إلى جنب مع ألكسيس شوتين وبروسبرريكارد في المغرب والبارون رودولف ديرلانجر (وثانيًا أنطونين لافاج) في تونس (ديفيس 2004؛ قطاط 2004؛ بوشيه ولامبرت 2000: 135-142؛ باسلر 2012-2013).تعد هذه الخطوة السياقية منطقية إلى حد كبير (حتى لو كانت بحاجة إلى التوسع خارج المجال الاستعماري الفرنسي لتشمل هنري جورج فارمر، وروبرت لاخشمان، وباتروسينيو غارسيا باريوسو، وغيرهم بلا شك، ديفيس 2013 وكاتز 2015 وكالديروود 2018)، إلا أن تفرد عمله قد تم إغفاله في كثير من الأحيان. من هنا نسجّل أنّ إسهاماته، سبقت ليس فقط إسهامات ديرلانجيه وشوتين، بل قدّمت لهما نوعا من النموذج والنموذج المضاد، إلى جانب اهتمامه بالناحية الاجتماعية للموسيقى والأحاسيس، خصوصا فيما يتعلق بالنوبة، على عكس على ذهب إليه ديرلانجيه الذي اكتفى بالمنهج التقني. وعلى الرغم من أنه أقل تركيزًا وصقلًا من عمل شوتين حول المغرب، إلا أن ربط روانيه طموح تحيزه في كثير من الأحيان لمجموعة واسعة من الممارسات الموسيقية يالأنماط الاجتماعية والسياسية المتجذرة في الماضي المغربي كان مصدر إلهام واضح لشوتين.
ومن عجيب المفارقات أن أهميته في الدراسات الأوروبية -على وجه التحديد في أوائل القرن العشرين- للموسيقى في المغرب والعالم العربي على نطاق أوسع هي التي ساعدت في تهميشه. أدّى إهتمامه بالموسيقى العربية والمغاربية بعد ما يقرب من نصف قرن
من العمل الرائد لفرانسيسكو سلفادور دانيال في الجزائر، إلى جعله أبرز من أي شخصية أوروبية أخرى تعمل لجلب هذه التقاليد الموسيقية إلى مجال الطباعة الفرنكوفونية في العقود الأولى من القرن العشرين. ومع ذلك، سرعان ما طغى مشروع ديرلانجيه التعاوني الضخم على ذروة جهوده عام 1922 والتي كانت تهدف أساسا إلى ربط دراسة المصادر الكلاسيكية بالممارسات المعاصرة في المشرق والمغرب. استبق المجلد الأول من مجلدات ديرلانجيه الستة، الذي نُشر عام 1930، تنظيم مؤتمر الموسيقى العربية المنعقد في القاهرة عام 1932، وهو الحدث الذي غاب عنه روانيه، حتى لو أن تأثيره كان واضحًا في بعض مطبوعاته، كمقدمة محمود أحمد الحفني لـ Recueil des Travaux (1934))، حيث أدّى حجم تدخلات ديرلانجيه وبروزها في نظر الجمهور إلى إبعاد بعض البريق عن أعمال روانيه. وكان هناك أيضًا فرق واضح في استقبال الشخصيتين
بين المثقفين العرب، ففي حين تلقى روانيه بعض الانتقادات اللاذعة من الموسيقي والباحث والمترجم اللبناني المصري اسكندر شلفون (1927)، حظي ديرلانجيه باستقبال إيجابي بشكل عام في الجزائر (المدني 1930)، وتونس، ومصر. لن يظهر نقد فارمر المدمّر للموسيقى العربية حتى عام 1946، ولكن من الممكن بالتأكيد أن تكون شكوك فارمر بشأن دراسة روانيه لها علاقة بغياب هذا الأخير عن القاهرة.
وأما فيما يتعلق نسبيا بنقص الاهتمام به في العقود الأخيرة مقارنة بديرلانجيه وشوتين وفارمر، فيمكن قراءة ذلك باعتبار أن الجزائر تطرح على الباحثين المعاصرين في شمال إفريقيا صعوبات، نظرا لأنها كانت مستعمَرة فرنسية ولقد أصبحت اليوم حقلا "للسكان الأصليين" وبمثابة خلفية درامية مقارنة بالبلدان المجاورة. ولسوء الحظ، فإن مثل هذه الرؤية تقلل من أهمية استعمار تونس والمغرب خلال فترة الحماية الفرنسية والإسبانية، وتحد من التواصل بين الدول المغاربيّة قبل وأثناء الفترة الاستعمارية، ومن ثم تضع الجزائر المستعمرة بين مزدوجتين أو كأرضيّة مجهولة يتعذّر الوصول إليها.
ولكن إذا كان من الممكن قراءة كتاباته من خلال مصطلحات إيديولوجية بامتياز، بحيث "يعيق الحكم القيمي، سواء كان جماليا أو اجتماعيا أو إنسانيا، التحليل الموسيقي"[8]، يمكن قراءتها أيضًا على أنها وثيقة تسلّط الضوء في عصره على قدر كبير من الممارسات الموسيقية في المنطقة المغاربيّة. كما يلاحظ جليا أن "الموسيقى العربية
في المنطقة المغاربيّة " تحمل آثار العلاقات التي أقامها الباحث مع الموسيقيين والمستمعين الجزائريين، بما في ذلك إدموند ناثان يافيل، ومصطفى عبورة، ومحمد علي سفينجة، وابن فراشو. أما فيما يتعلق بمخزون النوبة في الجزائر العاصمة وتلمسان على وجه الخصوص، فإن المقال يُقدّم في كثير من الأحيان نظرة ثاقبة لفهم الموسيقيين والمستمِعين للمخزون الموسيقي. بالإضافة إلى ذلك، يقدم روانيه روايات لمجموعة واسعة من الممارسات الموسيقية في عصره، قد تكون جزئية وحياديّة في كثير من الأحيان، ولكنها مع ذلك ثمينة. وكما تكشف تمارا تيرنر في هذا العدد، فإن وصفه للموسيقى المرتبطة بالجزائريين السود، خاصة في الأغواط، يجمع بين الاستعارات العنصرية ومعلومات مُفصّلة بشكل ملحوظ حول الممارسة الاجتماعية والموسيقية. والنسخ التي يقدمها (بعضها بقلم عبورة، على ما يبدو)، إلى جانب رواياته عن الأنماط الموسيقية والإيقاعات والآلات، توفر مصدرًا غنيًا للباحثين الذين يسعون إلى فهم المشهد الموسيقي في عصره خاصة فيما يتعلق بالجزائر، حيث يتحمّل الباحثون في الممارسات الموسيقية في العصر الاستعماري في المنطقة المغاربية مسؤولية تجاهل أعماله.
هذه المجموعة من المقالات لا تستنفد بأي حال من الأحوال كل جانب من جوانب مقاله ولكنها توضّح لنا ما يمكن القيام به من خلال قراءة متأنية لأعماله، بما في ذلك استكشاف الافتراضات الإيديولوجية التي يقوم عليها عمله الموسيقي، كما يتضح من تحليل هشام شامي لفكره ضمن سياقه الاستعماري الأوروبي الأوسع في شمال إفريقيا وخارجها. وفي الوقت نفسه، من الضروري تتبع الشبكات الموسيقية التي عمل فيها والتي ساعد في تشكيلها. وكما أشير أعلاه، وكما أشار قطاط (2004: 284)، فإن القراءة الدقيقة لكتاباته تكشف عن صلاته بالعديد من الجزائريين الآخرين. كان للباحث أيضًا تأثير مهم على العلماء الأوروبيين وعلماء شمال إفريقيا، حيث يستكشف إسهام حاج ملياني العلاقة الخصبة والصعبة بين روانيه ويافيل، والتي أدت إلى ظهور مشاريع موسيقية كان لها تأثير طويل المدى، بالإضافة إلى جدل مشحون بالسياسة ظهر
في أعمدة جريدةLa Dépêche Algérienne عام 1927. وبالنسبة إلى مقال جوناثان غلاسر، فهو عبارة عن قراءة تحليلية ووضع سياق للكتابة الموسيقية باللغة العربية لغوثي بوعلي (باحث جزائري مزجت أعماله بين المشاهد الفكرية الأوروبية والمشرقية والمغاربية)، والذي يبدو أنّ الباحث استشهد بعمله فقط لأجل انتقاده. أمّا هيلينا تيرفينن، فتتناول في عملها مسيرة عالم الموسيقى والملحّن الفنلندي أرماس لاونيس وطبيعة الرؤية الأوروبية لعمل روانيه والمشهد الموسيقي الجزائري الأصلي خارج الأدبيات الفرنسيّة.
تسد هذه الإسهامات المقترحة في هذا العدد من مجلة "تراث" الفجوات التي نجدها في نهج الباحث، وتعيد النظر في الممارسات الموسيقية وتطوّرها، وتشير إلى الجوانب "الإيجابية" لعمله الرائد من قبل إلسنر (1992)، وأمين دلاي (1999)، وبلينكرز (2002)، بينما يقدّم نسيم خلال قراءة قريبة لمعالجة روانيه للموسيقى القبائلية من خلال استكشاف افتراضاته الإيديولوجية في مجال ممارسة إقليمية محددة. وبدورها تقدم تمارا تورنر نقدًا لقراءته “لموسيقى السود” في الجزائر، بينما تشير في الوقت نفسه
إلى الأدلة القيمة التي يقدمها فيما يتعلق بالممارسات الموسيقية لتقاليد الجذبة عند السّود. ويهتم سلفاتور مورا بمناقشة روانيه الكبيرة حول الآلة الموسيقية ليبرز إشكالية في فهمنا للتمييز بين العود والكويترة في الفترة الحديثة.
إضافة إلى هذه الإسهامات، يتناول هذا العدد من مجلة تراث سلسلة من الوثائق ذات الصلة بالموضوع وذلك انطلاقاً من نصيحة زميلنا الراحل حاج ملياني الداعية إلى التنقيب خارج المصادر المعروفة. تتضمن الوثائق مقطعًا لا يقدّر بثمن من روايات أرماس لاونيس عن محادثاته مع يافيل بخصوص الأصول الموسيقية لسفينجة، والتي ترجمتها هيلينا تيرفينن عن الفنلندية، إضافة إلى نصوص الحوار المتبادل بين روانيه ويافيل عام 1927 في جريدة La Dépêche Algérienne؛ وأخيرا مجموعة مختارة من تعليقات شلفون الناقدة بشأن الموسيقى العربية لروانيه.
وفي الختام، نود أن نشيد بمجهودات المرحوم حاج ملياني الذي كان سببا في ولادة هذا التعاون العلمي، على أمل أن يستمر ذلك بلا كلل.
بيبليوغرافيا
Bouali, S. (1968). Petite introduction à la musique classique algérienne. SNED.
Bouhadiba, F. (2019). Etique vs émique dans la conceptualisation et la mise en exergue des spécificités des musiques modales : contextualisme désignatif et descriptif dans les textes de la musicologie francophone, propositions conceptuelles et impact musical. Revue des traditions musicales 13, 63-76.
Bouzar-Kasbadji, N. (1992). L’Algérie musicale entre Orient et Occident (1920-1939). Un évènement : le Congrès du Caire. In Philippe Vigreux (Ed.), Musique arabe : Le Congrès du Caire de 1932 (pp. 87-98). CEDEJ.
Calderwood, E. (2018). Colonial al-Andalus: Spain and the Making of Modern Moroccan Culture. Harvard University Press.
Chalfoun, A. (Ed.). (1927). Dā’irat al-ma‘ārif al-mūsīqiyya: ta’rīkh al-mūsīqā al-‘arabiyya. Maṭba‘at ra‘amsīs.
Davis, R.F. (2004). Ma'lūf: Reflections on the Arab Andalusian Music of Tunisia. The Scarecrow Press.
Davis, R.F. (Ed.). (2013). The “Oriental Music” Broadcasts, 1936-1937: A Musical Ethnography of Mandatory Palestine. A-R Editions, Inc.
El-Hefny, M.A. (1934). Introduction. In Recueil des Travaux du Congès de Musique Arabe (pp. 1-17). Imprimerie Nationale.
Elsner, J. (1992). Présentation de la musique algérienne au Congrès du Caire. In Philippe Vigreux (Ed.), Musique arabe :
Le Congrès du Caire de 1932 (pp. 191-208). CEDEJ.
Guettat, M. (2004). Musiques du monde Arabo-Musulman : Guide bibliographique et discographique, Approche analytique et critique. Editions Dar al-'Uns.
Katz, I.J. (2015). Henry George Farmer and the First International Congress of Arab Music (Cairo 1932). Brill.
al-Madani, T. (1931). Kitāb al-jazā’ir. Al-maṭba‘a al-‘arabiyya.
Pasler, J. (2012-2013). Musical Hybridity in Flux: Representing Race, Colonial Policy, and Modernity in French North Africa, 1860s-1930s. Afrika Zamani 20-21, 21-68.
Plenckers, L.J. (2002). Modal and Formal Constraints in Improvisation: A Study to the Algerian istiḫbār. In I. El-Mallah (Ed.), Omani Traditional Music and the Arab Heritage (pp. 83-107). Oman Centre for Traditional Music.
Poché, C. (1994). De l'homme parfait à l'expressivité musicale : Courants esthétiques arabes au XXe siècle. Cahiers de musiques traditionnelles 7, 59-74.
Poché, C. & J. Lambert (2000). Musiques du monde arabe et musulman : bibliographie et discographie. Les Geuthner.
Saidani, M. (2016). L'ethnomusicologie face à l'industrie du spectacle en Algérie. Cahiers d'ethnomusicologie 29, 175-191.
Yammine, H. (1999). L'évolution de la notation rythmique dans la musique arabe, du IXe à la fin du XXe siècle. Cahiers de musiques traditionnelles 12, 95-121.
جوناثان غلاسر[1]
أحمد أمين دلّاي[2]
Notes
[1] جامعة وليام وماري في فيرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية.
[2] مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية crasc
[3] Encyclopédie de la musique et dictionnaire du Conservatoire.
[4] La musique Arabe.
[5] تم رقمنة المقالين من طرف المكتبة الوطنية الفرنسية: https://gallica.bnf.fr/ark:/12148/bpt6k1237270/f201.item.r=Rouanet,%20Jules%20%201922%20%20La%20musique%20arabe%20%20Encyclop%C3%A9die%20de%20la%20musique%20et%20dictionnaire%20du%20Conservatoire%20 .
[6] ما عدا العمل الذي قدّمه بوحديبة 2019.
[7] انظر مثلا: بوعلي 1968، بوزار قصباجي 1992، سعيداني 2016.
[8] بوحديبة 2019، ص69.
المؤلفون الأكثر بحثًا
المقالات الأكثر قراءة
- التراث الثقافي بالجزائر : المنظومة القانونية وآليات الحماية
- التّراث الشّعبي والتّنمية المستدامة. قراءة في الرّقصات الشّعبيّة
- Les Turcs dans la poésie populaire Melhoun en Algérie. Emprunts et représentations
- Eléments d’histoire sociale de la chanson populaire en Algérie. Textes et contextes
- Mot du directeur du CRASC