تعتبر اتفاقية اليونسكو لسنة 2003 حول التراث الثقافي غير المادي استجابة للحاجة إلى معرفة ممارساتنا اليوم وتطورها عبر التاريخ، والاعتراف بأعمال أسلافنا وتعزيزها. وعليه، سارعت الدول إلى تصنيف معارفها وممارساتها، كما عملت على تكوين خبراء في تقنيات الجرد والتصنيف والتسجيل للتمكن من حصر تراثها وحمايته. وجاءت اتفاقية 2003 بعد أكثر من 30 سنة على اتفاقية الحفاظ على التراث الثقافي والطبيعي، حيث أدرك الممارسون أن هذه الأخيرة تهتم بالمعالم التراثية ولا تبالي بما يمتلكه الأشخاص من معارف تقليدية. وتعتبر الجزائر من أولى الدول المصادقة على الاتفاقية، حيث شرعت في عام 2005 في تسجيل أول عناصر تراثها اللامادي والمتمثل في "أهليل الڤورارة" بعد أن اكتشفه الباحث مولود معمري في بداية السبعينيات، مدركا أن هذا التراث يتهدده خطر الزوال كما هو الحال بالنسبة للعديد من أشكال التعبير والممارسات وطرق الاحتفالات والحرف التقليدية. ونتيجة ذلك، كان من الضروري تأسيس آليات تعمل أو تساعد على صون وحفظ التراث الثقافي غير المادي.
وبمناسبة مرور عشرين سنة على الاتفاقية (2003-2023)، يأتي هذا العدد من مجلة "تراث" ليعرض ويناقش ما أنجزته بعض الدول من أجل صون تراثها. وفي البداية تم تسليط الضوء على مسائل نظرية لها علاقة بالتحديات وإشكالية حقوق الملكية الثقافية وتوظيف الإعلام الثقافي. ومن جهة أخرى شملت باقي مقالات هذا العدد بعض ما سجلته الدول العربية من عناصر في شتى الميادين المحددة في تعريف الاتفاقية وهي خمسة : التقاليد وأشكال التعبير الشفهي، بما في ذلك اللغة كوسيلة للتراث الثقافي غير المادي؛ فنون الأداء والعرض؛ الممارسات الاجتماعية والطقوس والمناسبات الاحتفالية؛ المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون؛ الحرف التقليدية. وشملت النصوص المنشورة في هذا العدد جانبا تطبيقيا شمل بعض الممارسات الاجتماعية التراثية المتعلقة باللهجات الشعبية، سعف النخيل واستعمالاته الحرفية، اللباس التقليدي، المرأة الحرفية.
وفي مقال ويزة ڤلاز، من المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ علم الإنسان والتاريخ وخبيرة معتمدة لدى اليونسكو، عن " تطور اتفاقية 2003 والتحديات التي تواجه الحفاظ على التراث الثقافي غير المادي عند العرب"، بينت فيه أن مدة عشرين سنة من إصدار اتفاقية 2003 كافية من أجل التفكير فيما حققته من حيث زيادة الوعي العام للتعرف على تنوع وثراء التراث الثقافي غير المادي والعمل على تعزيز التعاون الدولي بشأنه. وبعد أن مرت الاتفاقية بعدة مراحل، فهي الآن تركز وبشكل أكبر على التنوع الثقافي والاعتراف بحقوق المجتمعات في تراثها وممارساتها، وتسعى لإدماج الأشكال الجديدة للممارسات. ومع ذلك، فإن الدول العربية التي هي أكثر حماسا واهتماما بالاتفاقية تبقى مشاركتها ضئيلة مقارنة ببقية دول العالم، ما يستدعي العثور على إجابات.
وتناول الباحث محـ مد حيـرش بغداد موضوع "التراث الثقافي والفكري وإشكالية حقوق الملكية، مفاهيم واتجاهات"، حيث تطرق إلى مسألة نظرية مرتبطة بالملكية الفكرية باعتبارها موضوع متنازع عليه بين المؤلفين والناشرين، حيث عرض النقاش الفكري والقانوني ضمن أهم الاتجاهات (الألمانية، الفرنسية والأنجلو سكسونية) وتداعياته على الاحتكار، نشر المعرفة، الحقوق المعنوية والحقوق الاقتصادية...إلخ، ثم توقف عند أهم التطورات التي حصلت بفعل تداول المنتجات الثقافية في المنصات الرقمية، إضافة إلى النقاش الحاصل اليوم حول حق الشعوب في استرجاع تراثها الثقافي المسلوب خلال فترة الاستعمار والمعروض في متاحف الآخر.
وبالنسبة للباحث بهاء ياسين من العراق، فتطرق إلى إشكالية "توظيف الإعلام تجاه التراث الثقافي في إطار الاتفاقيات الدولية التي أقرتها اليونسكو وتوجيهاتها التنفيذية الخاصة بعمل وسائل الاعلام"، مبينا العلاقة بين المؤسسات الدولية الساعية إلى صون التراث والإعلام التقليدي منه والحديث، من حيث أن هذا الأخير يوجه ويعبئ الرأي العام، ويضغط على النخب السياسية من أجل إصدار تشريعات تحمي التراث الثقافي، مع تباين فعالية ودرجة تأثير كل وسيلة إعلامية (جرائد، محطات البث الإذاعي، البث التلفزي…). وقد أتاحت الثورة التقنية للجمهور الإسهام في انتاج وتقديم المحتوى الإعلامي ما من شأنه أن يسهم في تبني آراء وأفكار تجاه المحافظة على الموروث الثقافي.
شاركت الكاتبة الروائية أماني الجنيدي، وهي خبيرة في التراث الثقافي غير المادي من دولة فلسطين بنص حول "اللهجة الشعبية الفلسطينية"، التي هي إحدى لهجات بلاد الشام، إلا أن لها خصوصية تختلف عن اللهجات الشامية الأخرى. ونوهت الباحثة إلى أهمية حاسة السمع في إدراك الصوت اللغوي وطريقة نطقه. وبينت الباحثة أن تعلم اللهجات العامية تكون بالمشافهة، علما أن اللهجة الفلسطينية ذاتها مختلفة بين أهل المدن والقرى والبادية، فموسيقى نطق الحروف ونبرها المسموع يعرّف عن هوية المتحدث.
كما شاركت الأستاذة شيماء سيد إبراهيم محـمد السنهوري، من أكاديمية الفنون بمصر بنص عنوانه "جماليات الأزياء التقليدية للمرأة البدوية : دراسة ميدانية بمركز الحسينية- محافظة الشرقية"، وذلك من أجل الإسهام في دراسة الفولكلور الشعبي المصري من خلال جمع مادة البحث (الأزياء) من الميدان ثم تصويرها فوتوغرافيا وأخيرا تحليلها. وتوصلت الدراسة إلى أن هذه الأزياء لم تستعمل حتى الآن إلا في المناسبات فقط، وأنه حدث الكثير من التغير في شكلهاوطريقة زخرفتها.
وعملت الباحثة إسمهان بن بركة، وهي خبيرة من تونس في التراث، على تقديم عرض حال عن "المرأة والتراث الثقافي غير المادي في تونس: الصون والنقل والترويج الوطني والدولي"، مؤكدة على دور المرأة، خاصة الحرفية في صون التراث الثقافي غير المادي ونقله باعتبارها حاملة وممارسة للمعارف والمهارات والطقوس. وتعد مشاركتها في تطوير ملفات الطلبات الخاصة بإدراج عناصر التراث الثقافي غير المادي في قوائم اليونسكو أمرًا أساسيًا على المستوى الوطني والدولي.
أما الباحثة أمينة عبد الله سالم، فتناولت في مقالها "توظيف حرفة العرائس الخشبية لمحاكاة رموز الثقافة الشعبية (جمعية التدريب المهني والأسر المنتجة بالزقازيق نموذجًا)" رموز الثقافة الشعبية في العرائس الخشبية، ودور جمعية التدريب المهني والأسر المنتجة بمحافظة الشرقية، مدينة الزقازيق في توظيف هذه الحرفة للنهوض بإحياء الثقافة الشعبية المصرية. واستعانت الباحثة بالمنهج الوصفي لتشخيص الظاهرة وتحليل رموزها باستخدام النظرية الرمزية للكشف عن الدلالات الثقافية، والعناصر التي تعمق الشعور بالانتماء للتراث الشعبي.
وفي الختام، لا تدّعي جملة النصوص المنشورة هنا عرض أو تحليل كل النقاشات حول التراث الثقافي اللامادي ولا الإلمام بكل العناصر الثقافية في العالم العربي التي استفادت من الحماية أو التسجيل في قوائم التراث العالمي. كانت الغاية بالدرجة الأولى فتح نقاش نظري حول اتفاقية 2003 وعرض موضوعات لها علاقة مباشرة بالميدان وذلك بعد عشرين سنة من إصدار الاتفاقية، حيث تم تناول الأبعاد والقضايا المتعددة المرتبطة بالحفاظ على تراثنا الثقافي وتثمينه ونقله. ومن خلال الإسهامات العديدة، ثبت أن للتراث دور حاسم في بناء الهويات الفردية والجماعية، وفي تعزيز الروابط الاجتماعية وفي التنمية الاقتصادية والسياحية للمناطق. كما سلّطت المقالات الضوء على التحديات المعاصرة (العولمة، الصراعات والحروب، تغير المناخ...) والمبادرات المبتكرة والسياسات الاستباقية الخاصة بتعبئة المجتمعات المحلية، واستخدام التكنولوجيات الحديثة والتعاون الدولي من أجل التغلب على هذه التحديات. وفي نهاية المطاف، لا يقتصر الحفاظ على التراث الثقافي على حماية الماضي فحسب، بل يعني أيضًا استثمارًا في المستقبل، ما يسمح للأجيال القادمة بالاستفادة من الثراء الثقافي والاستلهام من تنوع التقاليد والمعرفة الموروثة التي تعكس تنوع وعالمية التجربة الإنسانية.
مقدمة لنص الاتفاقية، حيثيات اتفاقية 2003
اتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي هي معاهدة تابعة لليونسكو، اعتمدها مؤتمرها العام في 17 أكتوبر 2003. وقد بدأت ببرنامج يبحث عن "روائع التراث الشفهي والتراث غير المادي للإنسانية"، علما أن بعض الدول المتحمسة اقترحت روائع من التراث حتى قبل هذا التاريخ. ودخلت حيز التنفيذ في عام 2006 بعد أن صادقت عليها 30 دولة ووصل العدد الدول المصادقة اليوم إلى 163 دولة. الاتفاقية أداة دولية تستجيب لحاجة الدول والشعوب الراغبة في تعريف أو إعادة تعريف مفهوم التراث، فتوفر للكل إمكانية الاعتراف بأشكال التراث الثقافي التي لا تجد مكانا في التعريفات السابقة ولا تندرج ضمن المفهوم الذي حددته اتفاقية حماية المعالم الطبيعية والثقافية لعام 1972.
وفقًا للمادة الثانية من الاتفاقية، يشير مصطلح التراث الثقافي غير المادي، Patrimoine culturel immatériel (PCI) بالفرنسية أو Intangible cultural heritage بالإنجليزية، إلى "الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات (وكذلك الآلات والأشياء المصنعة بها والأماكن الثقافية المرتبطة بها) التي تمتلكها المجتمعات المحلية والمجموعات، وعند الاقتضاء الأفراد المعترف بهم كجزء من تراثهم الثقافي".
وهو تراث حي، منقول من جيل إلى جيل، "تقوم الجماعات والمجموعات بإعادته باستمرار وفقا لبيئتها وتفاعلها مع الطبيعة وتاريخها، وهو يمنحها الشعور بالهوية والاستمرارية". ويتجلى ذلك بشكل خاص في التقاليد وأشكال التعبير الشفهية، وفنون الأداء، والممارسات الاجتماعية، والطقوس والمناسبات الاحتفالية، والمعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون، فضلاً عن المعارف المرتبطة بالحرف التقليدية.
يكمن الهدف الرئيس للاتفاقية في صون التراث الثقافي غير المادي، ويعني مصطلح "الحماية" مجموعة من التدابير التي تشكل سلسلة من أدوات المعالجة للتراث من أجل ضمان الاستمرارية الفعالة له:
• تحديد عناصر التراث لإحصائه .
• التوثيق والدراسة والبحث في طرق ممارسته.
• تحديد طرق لحمايته.
• طرق نقله عبر الأجيال من خلال التعليم الرسمي وغير الرسمي.
• التثمين عن طريق مخططات الصون والتنشيط عبر أعمال المجتمع المدني بكل أجزائه.
كما تتضمن الاتفاقية مجموعة من الأحكام لمتابعة مجهودات الدول، منها:
- أجهزة الاتفاقية.
- التعاون مع الدول من أجل تأسيس الحماية على المستوى الوطني.
- التعاون على المستوى الدولي.
- إنشاء صندوق التراث الثقافي غير المادي لمساعدة الدول في عمليات الصون والجرد والتسجيل.
- تقارير الدول على استراتيجياتها في صون التراث.
تعمل الاتفاقية على النطاق الوطني لكل دولة وعلى النطاق الدولي، فعلى المستوى الوطني، يُتوقع من الدول الأعضاء "أن تتخذ التدابير اللازمة لضمان صون التراث الثقافي غير المادي الموجود على أراضيها". وتشمل هذه التدابير تحديد التراث الثقافي غير المادي الموجود على أرض كل دولة بعملية جرد معقدة ومطولة، واعتماد السياسات المناسبة لذلك، وتعزيز التعليم لمادة التراث (...).
وعند تطبيق هذه التدابير، يجب على كل دولة أن تسعى إلى "ضمان أوسع مشاركة ممكنة للجماعات والمجموعات، كما عليها أن تستعين بالأفراد الذين ينشؤون هذا التراث ويحافظون عليه وينقلونه من جيل لآخر، وهم الشركاء الفاعلين في إدارة تراثهم".
أما على المستوى الدولي، تشجع الاتفاقية التعاون الدولي الذي يشمل "تبادل المعلومات والخبرات والمبادرات المشتركة، كما تعمل على إنشاء آليات لمساعدة الدول في جهودها من أجل حماية التراث الثقافي غير المادي".
ويزة ڤلاز:لشبكة العالمية للخبراء الميسرين للتراث الثقافي اللامادي لليونسكو/ CNRPAH
محـمد حيرش بغداد :مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية .CRASC
المؤلفون الأكثر بحثًا
المقالات الأكثر قراءة
- التراث الثقافي بالجزائر : المنظومة القانونية وآليات الحماية
- التّراث الشّعبي والتّنمية المستدامة. قراءة في الرّقصات الشّعبيّة
- Eléments d’histoire sociale de la chanson populaire en Algérie. Textes et contextes
- Les Turcs dans la poésie populaire Melhoun en Algérie. Emprunts et représentations
- Mot du directeur du CRASC