يتكون هذا الكتاب بعنوان "الحدود المخيالية، الأسلوب الفني والصورة الفوتوغرافية في السياق الكولونيالي" من ثلاثة أجزاء: الأول بعنوان "صناعة الفرنسيين للأسلوب الإسباني الموريسكي في الرواق المتوسطي للمرايا المشوهة" والثاني حول: "جرائم ووعي ما بعد الاستعماري حول صور انتفاضة ومجازر 1912 فاس وإسقاطها ما بعد الاستعماري". والثالث بخصوص: "التصوير الفوتوغرافي الاستعماري في المغرب. مقال تأويلي أنثروبولوجي مقارن للصور". تقوم منهجية الكتاب على تحليل تاريخي للصورة ضمن العلاقة التي تجمع بين المشرق والمغرب في فترات الاستعمار والصراع كما في فترات الاستقلال والسّلام. وإضافة إلى صورة الغلاف التي تبرز مجموعة من المحاربين العرب في البيداء على متن أحصنتهم شاهرين سيوفهم وبنادقهم إشارة إلى الحرب وهي تحمل عنوان "الأندلس زمن العرب المغاربة (Les Maures)". يضم الكتاب ثلاثة مجموعات من الصور الفوتوغرافية والرسومات : المجموعة الأولى تشمل عددا من صور ووثائق (خرائط) المدن المغربية (فاس، تيطوان) تبيّن مظاهر العمران والفن الأندلسي. المجموعة الثانية متعلقة بالتمرد الذي حصل في فاس سنة 1912، يوجد بينها صور جنود مغاربة، فرنسيون، متمردون معدومون، متمردون مقتادون للمحاكمة، صور لدفن الجنود الفرنسيين، تكريم الجرحى… وأخيرا، المجموعة الثالثة وهي متنوعة، أغلبها ذات طابع اجتماعي، فيها صور فوتوغرافية لمغاربة أفراد وجماعات، صورة لعبد الكريم الخطيبي رفقةLouis de Oteyza لوي دو أوتيزا (1922)، صورة فوتوغرافية للريفي وأخرى للأمازيغي، صورة نساء في حفل زفاف...إلخ.
يرى جزيل فروند Gizèl Freund أن التصوير الفوتوغرافي فن فقير تحوّل إلى مهنة من أجل كسب الرزق. وقد كان للاحتلال الاستعماري دور في نشره، حيث وصل التصوير الفوتوغرافي غير الصحفي في البداية إلى الجزائر وتونس ومن ثمة إلى المغرب بداية من 1894. ولكن الثقافة الشعبية اعترضت انتشاره، نظرا لأنه يمكن استخدامه من أجل إلحاق أضرار/شر بالآخر ضمن ممارسات السحر والشعودة. ويمكن أن تصير الصور رهان معركة مهمة في حروب المخيال (مارك أوجيه Marc Augé). وحتى وإن أمكن التلاعب بالصورة الفوتوغرافية، فإن بعض لحظات الحقيقة يمكن أن تٌرى من خلالها. وعليه، لا يمكن تقليص العلاقة بين التصوير الفوتوغرافي والاستعمار في مجرد خطاب هيمنة لأن ذلك سيخفي الغنى الحقيقي للخلفية الإثنوفوتوغرافية للاستعمار (ص 149). ويحمل عدم وجود صور لأحداث معينة دلالة حيث أنه وبالنسبة لانتفاضة/تمرد جنود المخزن والأهالي في فاس 1912 ضد الملك مولاي حفيظ ورفض الحماية الفرنسية، يوجد فراغ فوتوغرافي ولكن يوجد أرشيف تلغرافي للأحداث. كما أن غياب بعض المظاهر من الصور له معنى، حيث أنه وفي سنوات 1940 و1950 من الصعب العثور على صور فوتوغرافية تظهر مشاعر المحبة والصداقة بين النخبة (الأهالي) والفرنسيين.
اعتبر المؤلف في البداية أن عالم الصور الفوتوغرافية متعدد التمظهرات يتجول ويسافر في المخيال المعاصر متجاوزا الحدود السياسية. والمخيال الناتج عن تفاعلنا مع تلك الصور هو من طبيعة مختلفة وكثافات إيديولوجية مشابه لما طرحته نظرية الانعكاس (الانكسار). ونوجد اليوم في وضع سياسي، أين تكون الحدود السياسية بين الدول مغلقة على خلاف العولمة التي تشير إلى الانفتاح وتحفز عليه، الشيء الذي يجعل حركة الصور مشكلة مركزية. في الحدود بين المغرب والأندلس (إسبانيا) يكون نظام صناعة الصور خاضعا للمنطق الاستشراقي في البداية وللمنطق الوطني ثانية. ويدعو المؤلف باستمرار إلى أنه من المهم التخلي عن ثنائية المخيال الشرقي والغربي، لأننا في نظام المخيال كلنا شرقيون وغربيون في الوقت نفسه. تزداد هذه العلاقات الثنائية تعقيدا بدخول طرف ثالث وهم الفرنسيون الذين فرضوا الحماية على المغرب سنة 1912 وأعادوا تشكيل خارطة التصورات والحدود بين الشرق والغرب. كان لو بون Le Bon إلى جانب غابريال تارد Gabriel Tarde وألفريد فويي Alfred Fouillée أحد أعمدة الوطنية الفرنسية ولكنه معروف أكثر بأنه من أكبر منظري لــ "سيكولوجية الشعوب" والذي اعتبر أن الإسبان برابرة بسبب طردهم ثلاثة ملايين مورسكي وهم بذلك محووا حضارة العرب الباهرة. ولكنه في نظر المؤلف بمجرد أن أزاح المنافسين الإسبان تناسى وأخفى الروعة الإسلامية. وادعى لوي أوبير ليوتي Louis Hubert Lyautey "الرجل الفرنسي المعجزة" الحفاظ على تقاليد الأهالي وفي الوقت نفسه تطويرها. وفي مقابل هذا الطرح يرى طوريس باربيس Torres Balbas الإسباني عدم وجود علاقات صراعية بين المسلمين والمسيحيين واليهود مند القرن 11م. وهو يعتبر أن فن الباروك امتداد لــ "موديجار" mudéjar الذي يمثل الاندماج والتمازج بين الأسلوب الشرقي والغربي والذي يعتبره أسلوبا وطنيا مجهضا. ويتكلم باربيس عن انتصار كامل للإسلام الأندلسي المترسخ في الثقافة الإسبانية. وعليه، فإن الأساليب التي أجهضته غريبة. أما المعماري موريس ترانشون دو لونيل Maurice Tranchant de Lunel، فقد اعتبر أن المغرب هو بلد الجمال السليم والذي لا يجب تلطيخه بالحداثة (ص 51). أما مسألة وصم الحرفيين المغاربة بأنهم منحطون، كان إما بسبب اختفاء القواعد نظرا لغياب تناقل أسرار العمل عند وفاة المعلمين أو بسبب التجارة الأوروبية. وهنا يتحدّث بروسبر ركارد Prosper Ricard عن فن تغليف الكتب في فاس، أين بقي فيها حرفي واحد يعرف أسرار المهنة ولكن لم يكن له وريث. (ص 57) اعتبر كل من بروسبير ركارد ومصلحة فنون الأندجين أنهم منقذو الموسيقى المغربية الشعبية العالمة. ورأى الأب غارسيا باريوسو Garcia Barriuso، الخبير في الموسيقى الأندلسية، أن "المٌغنّي المغربي لم يكن يكترث كثيرا في أدائه للسجل (المتن) الكلاسيكي ويظهر أن مدير الجوق (الأوركسترا) لم يكن ينتبه إلى تلك الأخطاء. (ص 62) وفي نظر بروسبر كان هذا مدعاة لتصحيح وتقويم الوضع بإنشاء معاهد موسيقى متخصصة كما هو الحال بإنشاء معهد الرباط سنة 1932 على شاكلة النماذج الفرنسية والعمل على تجريد هذا الأسلوب الغنائي والموسيقي من خلفيته الشرقية.
في مهرجان سنة 1925 انتصر نوع الغرناطي، حيث أن بن إسماعيل من مدرسة وجدة هو الذي قاد الأوركسترا. وصمود الموسيقى الأندلسية دليل على وجود تمازج بين الثقافة الإسلامية والإسبانية (hispano-mauresque). وكانت مجلة "أفريكا" داعمة للتوجه ذي النزعة الإفريقية والإسبانية وعملت على نشر الأسلوب الإسباني الموريسكي في سنوات الثلاثينات من القرن العشرين. أخفت التخيلات والأوهام الاستشراقية حقيقة شمال إفريقيا وحقيقة المدن فيه ولكن آخرون مثل أوندريه شوفرييون Andre Chevrillon وبيار لوتي Pierre Loti عملوا على إشهار مدينة فاس باعتبارها مدينة نموذجية غير أنّ فتح المدينة أبوابها للقنصليات الأجنبية أفقدها هويتها الإسلامية والأندلسية. ومع ذلك يبقى المغرب أكثر بلدان المغرب العربي وبلدان المشرق غربيا.
كيف تؤثر السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على إعادة بناء مخيال جديد/مختلف عن الآخر؟ هذا ما يعمل صاحب الكتاب على توضيحه، حيث يدرج الحالة الآتية : بعد تخلص الإسبان من دكتاتورية الجينرال فرانكو والحرب الأهلية خلال سنوات 1930 والانفتاح الديموقراطي بداية من 1980، صار بإمكانهم إعادة اكتشاف الماضي الموريسكي والألفة التاريخية مع المغاربة التي تولّدت عنها مشاعر الحب البريء وبالتحديد مع أهل الريف (الريافة). وقد عززت الجالية المغربية المهاجرة إلى إسبانيا هذه العلاقة ولكن ظلت الصورة النمطية عن المغرب هي صورة الفقر. وبعد أن عرف الإسبان نوعا من الثراء سنة 1990 تولدت عن ذلك مشاعر تكبٌّر وتباهي واستعلاء على الآخر، إلا أن الفقر عاد مجددا إلى إسبانيا منتصف سنة 2010 وبدأ الشباب الإسبان في الهجرة إلى باقي الدول الأوروبية، حينها تم توحيد الصور والمساواة في العلاقات اليومية بين المغاربة والإسبان. ويٌلاحظ كذلك أن الإسلاموفوبيا (الخوف من الإسلام والمسلمين) أقل في إسبانيا بالمقارنة مع إنجلترا وفرنسا وألمانيا ولم تشهد إسبانيا أعمالا إرهابية من طرف الجهاديين ما عدا ما حصل في ألجيدو El Ejido بألمريا (Almeria) في 2000.
وتبقى المفارقة الكبرى قائمة لدى الغربيين، إذ يمكنهم أن يكونوا مناهضين للنازية وفي الوقت نفسه يقبلون أن يكونوا مستعمرين لمجتمعات أخرى. وهذا ظاهر في فيلم حرب الجزائر من خلال شخصية الكولونيل ماتيو. (ص 154، 155) ويناقش المؤلف
في الأخير طريقة استقبال المهاجرين وكيفية النظر إليهم تبعا لأصولهم إن كانوا أوروبيين أو آسيويين أو أفارقة، حتى وإن كانت الاتفاقيات الأوروبية بعد ح ع 2 تمنع النظر إلى المواطنين على أساس عرقي أو إثني تفاديا لكل نزعة مناهضة للسامية والبقاء في باراديغم التعددية الثقافية ومع ذلك تبقى النّظرة الازدواجية إلى المهاجرين. والأورو كعملة أوروبية لا يظهر معالم أثرية لدولة بعينها أو أعراقا أو وجوه بشرية. لقد قامت أوروبا غير الوطنية وباعتبارها مثالا يوتوبيا عابرا للأوطان بتجنيد الفن وذلك من أجل تجنب كل تحيز وكل تمييز إقصائي. ولكن كما يرى أوريش بيك Ulrich Beck، فإن أوروبا تتميز بالضبط بلا- هويتها Par sa non- identité من أجل تجنب أن تتعرف على ذاتها في تاريخها afin d’éviter de se reconnaître dans son histoire المليء بالعنف في كل مراحل التاريخ. أوروبا هي هوية بعد استعمارية معرفة أو محددة بالنزعة الكوسموبوليتية. وتم في المقابل ترك النزعة الوطنية للفقراء المهمشين من طرف التاريخ الحالي. إن بناء أوروبا يتطلب التزام وانخراط قاعدة المواطنيين المسؤولين فيما فوق الدول-الأوطان تجسيدا لما بعد الحداثة. وبالتالي، فإن أوروبا ليست مقاطعة أو أرضا ولكنها منهج. والاحتمالات الثقافية موجودة في أوروبا وستظل الأندلس فضاء حنين وتجربة تمازج واندماج ثقافي واجتماعي بين المسيحيين واليهود والمسلمين يمكن لأوروبا اليوم أن تعيد إحياءها واكتشافها. والإسبان الذين أسلموا سنوات 1980 قاموا بالبحث عن طريق خاص (طريق أندلس) للاعتراف بالدين، وبالخصوص التصوف.
ويتبيّن في الأخير أن الصورة ليست بريئة، فهي تخضع لتأطير مخيالي ويؤثر على رؤيتها وفك رموزها عوامل الزمن والتاريخ. كيف يمكن أن نمد الذين خضعوا للاستعمار بالتحكم التقني بالصور من أجل الاستفادة من نظرتهم الخاصة للمجتمع؟ هل يمكن أن نفعل كما فعل فرانس فانون الذي أخرج آلة التصوير الفوتوغرافية في وجه الاستعمار أو بطريقة تهكمية كما فعل جون روش Jean Ruch؟ يجيب المؤلف على هذين السؤالين بالقول إن هذه الطرق تجاوزها الزمن وأحسن طريقة لإثراء النقاش ما بعد الاستعماري تكمن في أرض الهرمينوطيقا بدون إقصاء أي وجهة نظر حول الواقع الاستعماري.
محمد حيرش بغداد
Most searched Authors
Most read articles
- التراث الثقافي بالجزائر : المنظومة القانونية وآليات الحماية
- التّراث الشّعبي والتّنمية المستدامة. قراءة في الرّقصات الشّعبيّة
- Les Turcs dans la poésie populaire Melhoun en Algérie. Emprunts et représentations
- Eléments d’histoire sociale de la chanson populaire en Algérie. Textes et contextes
- Mot du directeur du CRASC