التّراث الشّعبي والتّنمية المستدامة. قراءة في الرّقصات الشّعبيّة
تقديم
يعتبر الموروث الثقافي أكبر شاهد على حضارات الأمم والشعوب، ورمز تطور المجتمعات عبر التاريخ بالإضافة إلى كونه موروثا اجتماعيا تجب المحافظة عليه ورعايته، وتوريثه للأجيال القادمة أمر ضروري. وهو عنصر هام من عناصر الجذب السياحية المميزَّة، وخاصة في الصحراء الجزائرية التي تمتدّ على مساحات شاسعة بكل مظاهرها الطبيعية الخلَّابة؛ الكثبان الرملية الذهبية، الهضاب الصخرية، الينبيع الحجرية، الواحات الخضراء.. وغيرها، كل هذا التنوع والتميّز يبقى شاهدا على مرّ العصور والأيام، فواحات وقصور الجنوب الجزائري شرقا وغربا تشكّل متحفاً طبيعياً بالإضافة إلى ما تزخر به مدن الجنوب من ممارسات احتفالية مختلفة في التقاليد والعادات والمعتقدات، تشكّل هي الأخرى أنموذجا ثانيا يدعم المنتوج السياحي الطبيعي الصحراوي الواعد، ومقصداً للسياح بالدرجة الأولى، إذا استغلَّته الجزائر استغلالا جيّداً كغيرها من دول البحر الأبيض المتوسط و دول الجوار التي تعدُّ أنموذجاً ناجحاً في استغلال الموروث الثقافي من أجل النهوض بالقطاع السياحي وتحقيق تنمية مستدامة وضمن هذا السياق يمكن طرح بعض الأسئلة:
- هل بإمكان الموروث الثقافي السياحي في الجزائر، وأخصّ الرقص الشعبي كأنموذج، تحقيق تنمية سياحية مستدامة ؟
- وهل هناك مؤهلات يمكن الاعتماد عليها لتحقيق ذلك ؟
هذه الأسئلة وغيرها ستكون محل بحث في هذه الورقة البحثية، قصد تتبع حيثيات الإشكال الأساس – دور الرقصات الشعبية في تحقيق التنمية المستدامة – علّنا نقترب من الإقناع بأهمية هذا الموروث.
مما لا شك فيه، أن التراث الجزائري يُشكل لوحة متعددة الألوان والأصباغ بعراقته وثرائه، برقصاته التقليدية المتنوعة وبرصيده الموسيقي الضخم المجسد في شكل فسيفساء أنيقة متفاوتة ومتناسقة الألوان ترافق فيها الأنغام الساحرة رقصات رمزية هادفة في حركات مثيرة للذهول على وقع آلات موسيقية محلية الصنع متفردة الشكل. هذا التميّز وهذه الخصوصيات أعطت لهذا الموروث ثراء وارتقاء عالميا يشهد له ماضيه الطويل الذي التقت فيه عدة حضارات وثقافات وتمازجت لتعطي هذا التركيب المنسجم لتعابير فنية راقية، استطاعت أن تقاوم نوائب الدهر وصروفه.
أهمية الرقص الشعبي لا تقلّ أهمية عن الموارد السياحية الأخرى في ميدان التنمية المستدامة، لذا أولت جلّ الدول، إن لم أقل كلها، أهمية بالغة لاستغلاله في هذا المجال، وأذكر على سبيل المثال تونس التي خصَّصت لهذا الموروث إمكانات كبيرة من أجل ترقيته وتطويره، وهي اليوم في صدارة دول البحر المتوسط في الشمال الإفريقي، وأكثرها اهتماما بالسياحة الصحراوية. وقبلى تناول الأسئلة المطروحة نجد أنه من الضرورة أن نورد تعرف التراث.
تعريف التراث
اصطلح الباحثون العرب على لفظة التراث كمقابل للفظة فولكلور الانجليزية التي ظهرت في أواسط القرن الثامن عشر والتي تعني: العادات والتقاليد والأمثال والأغاني والحكايات الشعبية وعدَّه العالم الامريكي سميث طومسون (Smith Thomson) مرادفا للتراث الشعبي، فقال : "هو التراث إنه شيء انتقل من شخص الى شخص آخر، وجرى حفظه إما عن طريق الذاكرة أو الممارسة أكثر مما حفظه عن طريق السجل المدون" (العنتيل، 1978، ص. 42).
ومما جاء في تقرير مجلس جمعية الفولكلور الانجليزية: " أن الفولكلور يمكن أن يطلق على ما يشمل جميع ثقافة الشعب التي لا تدخل في نطاق الدين الرسمي ولا التاريخ، ولكن تنمو دائما بصورة ذاتية" (العنتيل، 1978، ص. 30)
ونتيجة لإفرازات النزعة الرومانسية التي ظهرت في أوروبا بداية من القرن الثامن عشر، بدأ الاهتمام بالمادة الفولكلورية عند الغرب، فمدحت الانسان البدائي البسيط ودعت للرجوع إلى حياة الريف البسيطة والتشبث بالموروث، وتبعا لهذا المفهوم ارتبطت المادة الفولكلورية بالماضي واتخذت البساطة مدلولا لها.ويرى ألكسندر هـ. كراب Alexandre H. Crabbe" أن مصطلح الفولكلور قد أخذ دلالتين اثنتين تتمثل الأولى: في جملة المأثورات غير المدونة كما تظهر في الابداع الشعبي والعادات والتقاليد والسحر والطقوس، وتتمثل الثانية في اطلاقه على العلم الذي يهدف إلى دراسة هذه المواد " (مرسي، ص. 41).
وهذا يعني أن الفولكلور هو الإطار العلمي لدراسة كافة أشكال الثقافة المادية واللامادية ويعتبر من المصطلحات الأكثر انتشارا في العالم، وبالعودة إلى الجانب العربي فالتراث هو المقابل لذلك المصطلح على أن هذا التوجه قابله بعض الأخذ والرد حول هل مصطلح التراث يصلح أن يكون مرادفا للفولكلور، أم أنّه يعمل على تضيق المفهوم و إبعاده عن مساره الصحيح، ويرى الباحث أحمد زياد محبك أنَّ : "كلمة فولكلور الانجليزية التي استعملها أول مرة وليم طومسون سنة 1846 لا تعني ما يعنيه مصطلح التراث الشعبي، وإنما تعني في اللغة حكمة الشعب أو المعرفة الشعبية، وهي تعني في الاصطلاح النتاج الشعبي كله، وقد اقترحت في اللغة العربية بعض المصطلحات البديلة عن مصطلح التراث الشعبي مثل الموروثات الشعبية والمرددات الشعبية والفنون الشعبية والشعبيات، ولكن لم تحظ هذه المصطلحات بالقبول والانتشار مثلما حظي به مصطلح التراث الشعبي، ولدعم انتشار مصطلح التراث الشعبي وتأكيد وحدته في الأقطار العربية يبدو أنه لابد من القبول به ولكن لابد أيضا من التأكيد أن معناه يجب ألا يقتصر على القديم من النتاج الشعبي وإنما يجب أن يشمله كل قديمه وحديثه" (محبك، 1999، صص. 16-17).
ويحدد هذا المفهوم أحمد أبو زيد (أبوزيد، 1998، ص. 144) قائلا : ''بأن التراث الشعبي هو السائد الشائع في المجتمع من الفنون القولية المختلفة ومن الإبداعات الفكرية والتشكيلية التي تصدر بصورة حرة تلقائية والتي لا يعرف لها مؤلِف ولا يكاد يعرف لها تاريخ، وإنْ كانت هذه الإبداعات تدور حول أشخاص أو أحداث تاريخية كما هو الحال في السير الشعبية مثلا، وربما كان المثال الواضح لذلك هو كتاب 'ألف ليلة وليلة' وتاريخها الطويل والإضافات التي أضيفت عليها والجوانب التاريخية و المتخيّلة، وعوالم الإنس والجن التي تمتزج بعضها ببعض بصورة مختلفة تكشف قدرات هائلة عن التخيّل بحيث يصعب ردّ العمل ككل إلى شخص واحد أو حتى إلى مجتمع واحد وثقافة واحدة بعينه''.
فالتراث إذاً هو كل ما تركه الإنسان لمن جاء بعده سواء كانت هذه الآثار شفوية مترجمة الجانب الفكري للإنسان أو مادية تلخِّص ما توصَّل إليه فكره في تطوره واكتشافاته عبر العصور، بغض النظر عن آراء الباحثين وتقسيماتهم لهذا التراث وانفراد بعضهم ببعض أجزائه دون البعض الآخر.
عناصر التراث
يتفق أغلب الباحثين في تقسيم عناصر التراث الشعبي إلى أربعة أبواب منها: الثقافة المادية والفنون الشعبية، وتَضُمُّ عناصر هذه الثقافة: الموسيقى والغناء والرقص والألعاب وغيرها من الأشكال الفنية الأخرى التي تتسم بالحركة أو الصوت، والملاحظ أن هذه الأشكال الفنية عرفت اهتماما كبيرا من قبل الباحثين في ثقافات الشعوب، فوضعوا لها مفاهيم خاصة تحدد أطرها، وبوَّبوا هذه الأشكال وفقا لانتمائها الجغرافي والاجتماعي، كما رتَّبوا الموروث الموسيقي حسب الأجناس والأشكال المعروفة محليا اعتمادا على الايقاعات والمقامات.
1/ الموسيقى الشعبية: وتنضوي تحتها الأشكال التالية:
أ/ الموسيقى المصاحبة للأغاني: وتَضُمُّ - الموسيقى المصاحبة للرقص - الموسيقى المصاحبة للنداءات والابتهالات - الموسيقى المصاحبة للإنشاد - الموسيقى البحتة.
ب/ الآلات الموسيقية : وتَضُمُّ - آلات النفخ - الآلات الوترية - الآلات الإيقاعية.
2/ الرقص الشعبي والألعاب ومنه رقص : جماعي/فردي - ذكوري/ أنثوي/ صوفي - فئات خاصة.
الرقص الشعبي
تعرف منطقة الجنوب الغربي كثير من الرقصات التقليدية أكثرها لها حضور في المناسبات الدينية والوطنية، نذكر منها في وادي الساورة: رقصة الهوبي، الماية، رقصة الحيدوس، بارود بني عباس وكرنفال القنادسة بركايشو، وفي تبلبالة رقصة تِي كَدَّا، رقصة الله يهنينا.. الله يهنيكم، رقصة العبيد أو قنقا، وفي مدينة تندوف رقصات تقليدية كثيرة منها رقصة التويزة، رقصة الشَّرعة، رقصة الضفاير، رقصة تَغَنْجَا، رقصة قرقابو، رقصة النعام و تْرِيتِمَة.. وغيرها، ومنها ما لم يذكر في هذه الورقة كرقصة لعلاوي ببني ونيف ورقصة المساء بتبلبالة، ورقصات المهراز والمغزل والقدحة والطبق ولحفول (المكياج).. وغيرها بتندوف، والرسمة بالواتة والحضرة بكرزاز وغيرها، وهذه بعضٌ منها مما سنقدم لها تعريفا مختصرا:
1. رقصة هوبي (بوشيبة، 2010، ص. 128)
تشتهر قبيلة ذوي منيع[2] برقصة هوبي الفلكلورية، وهي من الطبوع العريقة بالجنوب الغربي الجزائري، وشكل من الأشكال التعبيرية القديمة التي لا تزال محافظة على إيقاعها الأوّل، بدليل اعتمادها على التصفيق والضرب بالأرجل في تناسق تام دون استعمال آلات موسيقية إلى اليوم، ويشكل هذا الإيقاع المميّز ميزانًا خاصًا ترافقه المرأة برقصتها المعروفة.
تقوم هذه الرقصة على الأداء الجماعي الذي يمثل قاعدة أساسية لكثير من الأشكال التعبيرية الشعبية ومظاهر الاحتفال عند الأمم والشعوب، لتشكل طابعا خاصا، وتمتد جذورها إلى الماضي البعيد، ولا يمكن فصلها عن التراث العربي لأنها تشبه بعض الرقصات الشعبية في بلدان عربية كثيرة، وترتبط باحتفاليات الزواج، لكنها حملت - دون شك - إضافات كثيرة عبر مراحل التاريخ الطويل، ولا تزال محافظة على طابعها المميّز وهو ما يؤكد على خصوصيتها الثقافية الأصيلة، وتحديها للثقافات الوافدة، وقد تكون تعبيرًا عن الوجود الإنساني في هذه المنطقة، وستظل كذلك مثل نظيراتها في مختلف المجتمعات عامة، والمجتمع العربي بخاصة.
شكلها الهندسي : تؤدى هذه الرقصة عادة في احتفالات الزواج في شكل خط نصف دائري من الرجال يضيق ويتسع كلما اشتدّ الرقص، ويتفاعل أعضاء المجموعة مع إيقاعه، ويندمجون فيه وتشاركهم المرأة الراقصة أو الراقصات، كلما حان دورهن الذي يقوم على التحاور الإيقاعي فيصطف الرجال في بداية العرض في شكل القوس المتراص البنيان، ككتلة واحـدة تتماوج تبعا لدرجات الإيقاع ومستوياته بين الشدة والقوة من جهة، وبين الرخاوة واللين من جهة ثانية، وهذا الشكل الهندسي للرقصة يتيح المشاركة لأكبر عدد ممكن من الرجال، وتسمح لكل منهم بمواجهة الراقصة وجها لوجه عندما تقوم بحركتها داخل هذا الشكل النصف دائري، كصورة الإبهام إلى بقية أصابع اليد، فيستطيع الراقص من خلالها التركيز بكل حواسه الذكورية على الراقصة.
ويتوسط الفرقة قائد يصير الأمر والإيعاز كله إليه في توجيه حركة الفرقة والراقصة معا، من بداية الجولة إلى نهايتها، ويكون في الغالب شاعرا أو راويا يحفظ رصيدا وافرا من النصوص الغنائية المعروفة بـ (بونُقْطَة)، لأن النص المتغنَّى به يتجدَّد بعد كل جولة.
2. رقصة الحيدوس (وزارة الثقافة الجزائرية،2011، ص. 45)
تعرف رقصة الحيدوس أو الركزة، عند سكان قصور الشمال (بني قيل) بشار وهي رقصة يلتقي فيها الغناء بالشعر والرقص، تؤديها فرقة من الرجال والنساء في مناسبات الزواج والختان، والسهرات الجماعية، ويكون اللباس موحدا في الاستعراضات الرسمية، يرتدي الرجال عباءات بيضاء، وعمائم بيضاء أو صفراء ونعلين، بينما ترتدي النساء لباسا تقليديا محضاَ، ويتم الرقص على إيقاع آلة البندير وهي آلة موسيقية مصنوعة من الخشب اللين في شكل دائري.
وأما كيفيتها فيقف أعضاء الفرقة في شكل صفين متوازيين واحد من الرجال والثاني من النساء، أو صفًا واحدًا من الرجال (يلتصق كل منهما مع الآخر الكتف إلى الكتف)، ويتحرك الجميع ككثلة واحدة أثناء الرقص على وقع البندير ــ كل واحد من أفراد الفرقة يضرب على آلة بنديرــ والضرب بالأرجل بإيعاز من قائد المجموعة مع الغناء، وترديد المقاطع الشعرية المثيرة للمشاعر والرغبات المأمولة، وتقوم الرقصات في شكل خطوات أو قفزات صغيرة نحو الأمام ثم إلى الخلف وتسير الرقصة بانسجام الجمع المتلاحم.
أما الغناء المرافق لهذه الرقصة، فهو عبارة عن أهازيج شعبية في شكل بيت أو بيتين من الشعر يلقيه قائد الفرقة، ثم يردده أعضاؤها، وقد يرتجل بعضه أثناء الرقص.
3. رقصة الماية (وزارة الثقافة الجزائرية،2011، ص. 44)
أما الرقصة التي اشتهرت بها قبيلة الغنانمة، فهي رقصة الماية التي تجمع بين إنشاد الشعر والرقص في حفلات الزواج، وتقوم على الأداء الجماعي كغيرها من الأشكال التعبيرية الشعبية الأخرى، ويذكر أهل المنطقة أن أتباع ومحبي مرابطي الزاوية الكرزازية من قصر أقدال، هم الذين بدأوا هذه الرقصة، عندما أقاموها احتفالا بإحدى حفلات الزواج للشيخ بوحسون أحد شيوخ هذه الزاوية، ثمّ توالت في كل احتفاليات الزواج فيما بعد، ويعتبرون هذا القصر (أقدال) هو مهدها الأول، وتأتي تسمية الماية من كلمة الماء، فيقولون: (مَايَ، أي مائي) ويراد به سيره أي الإيقاع الذي يسير عليه أو الدندنة التي يطرب لها، ومنهم من يقول الريح والمراد به الرتم (le Rythme)، أما عبارة: (وعْلاَشْ يَا أمَّ مَالِي، مَالِي) التي تردد في كل جولة فهي عبارة عن لازمة تبتدئ و تنتهي بها كل جولة من الرقص.
وتتكون الفرقة من فريق رجال يتوسطهم حامل (الطارة)[3] الدف الكبير أو اثنين ويترتب الباقي ثلاثة ثلاثة على اليمين واليسار حاملين أَقَلاَّل من حجم واحد، وفريق نساء لا يحملن شيئا إلا التصفيق أثناء الرقص مع تشابك الأيدي، ويتحركن وفق نقرات الآلات الموسيقية، مع ترديد اللازمة حيث تجتمع المجموعة في شكل خطين متوازيين رجال ونساء، يسيرون بخطى مركزة في حركة متواصلة، وتقوم (النَّشَّاشَاتْ) الراقصات بخطوات صغيرة نحو الأمام ثم إلى الخلف تتبعها حركة الرجال في ذهاب وإياب من دون تقاطع الخطوط، وتجري الرقصة بانسجام الجمع المتلاحم، تصحبها إيقاعات (اَلطَّارَة و الْقَلَّالْ) ويساندها تصفيق النساء وزغاريدهن من حين لآخر.
انتشرت هذه الرقصة في وادي الساورة بكامله، وخاصة بني عباس في احتفالات المولد النبوي وفي غيره من المناسبات، وأصبح لها فرقة تنشط على المستوى المحلي وداخل الوطن وخارجه، بدافع المحافظة عليها، فسارعوا إلى حفظ قصائدها الشعرية وروايتها، وتغنُّوا بها في مناسبات كثيرة، كانت تشهدها ليالي سمرهم، واحتفالات زواجهم.
4. رقصة تِـكَدَّة (بوشيبة، 2015، ص. 91) أو الِّرجْل الصغيرة بتبلبالة :
يشتهر سكان مدينة تبلبالة برقصات كثيرة منها رقصة (تِكَدَّة)، وهي رقصة تجمع بين الغناء والشعر والرقص في حفلات الزواج والختان، وتقوم على الأداء الجماعي كغيرها من الأشكال التعبيرية الشعبية الأخرى، وهي تشبه في أدائها رقصة (هوبي) عند قبيلة ذوي منيع بالعبادلة، لاعتمادها على التصفيق والضرب بالأرجل في تناسق تام دون استعمال آلات موسيقية إلى اليوم، وتختلف عنها في الشكل الهندسي، وتشبه أيضا، رقصة (الماية) عند قبيلة الغنانمة ببني عباس في قيامها على صفين متوازيين متقابلين، واحد من الرجال وآخر من النساء في تناسق تام، ترافقها أهازيج شعبية تردد في كل جولة من الرقص، وبهذا تكون هذه الرقصة إحدى الأشكال التعبيرية القديمة التي لا تزال محافظة على إيقاعها الأوّل.
وأما كيفيتها، ففي كل مناسبة زواج يجتمع السكان مساءً في الساحة العامة أو أمام بيت العريس ، ويدعى عادة شيوخ الرقصة، والفرقة المكونة من الرجال والنساء (7\7)، وتكون البداية بالغناء بنصوص خاصة، تعرف بـ: (لَالَايُو) برفع الصوت للإعلان عن بداية الاحتفال، ثم يتوقف المغني ليفسح المجال للفرقة التي تردد البيت الأخير من النص المتغنَّى به من طرف الرجال والنساء بالتناوب مرفوقا بالتصفيق والزغاريد ، وهكذا في كل جولة، ويتوسط صف الرجال قائد الفرقة الذي يصير الأمر والإيعاز كله إليه في توجيه حركة الفرقة، (الرجال والنساء معا)، وفي رفع الصوت أو خفضه من بداية الجولة إلى نهايتها، ويكون في الغالب شاعرا أو راويا يحفظ رصيدا وافرا من النصوص الغنائية، أي الأهازيج، لأن النص المتغنَّى به يتجدَّد بعد كل جولة، ويترتب الرجال في صف واحد على يمين القائد ويساره إيقاعيا، ثلاثة ثلاثة، ويصفق من يكون في طرفي الصف بنقرات متواصلة، ومن في الوسط بنقرات مترادفة، ويُمْلأ الفراغ الإيقاعي الحاصل بينهم بالضرب على الأرض بالأرجل، فيحدث نوع من الانسجام بين كل اثنين، ثم بين كل أعضاء الفرقة، ويتم العمل سريعا في آنٍ واحدٍ، ترافقه حركة الأجسام المتموجة في رِتْمٍ واحدٍ يضعف أو يشتـدّ تبعا للإيقاع.
ولا يحمل أعضاء الفرقة آلات موسيقية إلا التصفيق والضرب بالأرجل بالنسبة للرجال وتشابك الأيدي بالنسبة للنساء بشكل مختلف، ويتحرك الجميع وفق نقرات الأيدي والأرجل، مع ترديد الأهازيج في شكل خطين متوازيين متقابلين، يسيرون بخطى مركزة في حركة متواصلة وتقوم الراقصات بخطوات صغيرة نحو الأمام ثم إلى الخلف تتبعها حركة الرجال في ذهاب وإياب دون تقاطع الخطين، وتجري الرقصة بانسجام الجمع المتلاحم يصحبها التصفيق والضرب بالأرجل، ويساندها تصفيق النساء وزغاريدهن من حين إلى آخر.
ولها اليوم فرقة تنشط على المستوى المحلي، بهدف المحافظة عليها، فهم يحفظون القصائد الشعرية ويروُونها، ويتغنَّون بها في كل مناسبة احتفالية تشهدها مدينتهم.
5. رقصة الله يهنينا الله يهنيكم(Funka, 2008, pp. 163-172) بتبلبالة
هي رقصة شعبية معروفة في منطقة تبلبالة بني عباس تؤديها شرائح أو عينة من المجتمع المحلي البلبالي، تقام في الأفراح والمناسبات وترمي إلى استنزال البركة والطمأنينة والتفاؤل بذلك الأمل المنشود " الله يهنينا... الله يهنيكم"، الذي يتم التماسه بالدعوة الى الله، والذي تفتح الرقصة به، والتوجه به إلى الله سبحانه وتعالى، في طلب الرضا وبلوغ مرام الهناء الذي يحمل دلالات روحية في المعتقدات الصوفية، وهو يشير إلى الرضا.
تؤدى الرقصة بصورة بسيطة لا تكلف فيها، تردد فيها كلمات تفتتح بالصلاة على النبي، وترتبط بطموح الله يهنينا الله يهنيكم، وتستخدم في ذلك آلات موسيقية (الطَّارَة، وَالْقَلَّالْ) يحملها الرجال، أما النساء فتعمدن على التصفيق مع حركات إيقاعية تابعة للإيقاع في شكل تقابلي خطوة من الرجال إلى الأمام وأخرى من النساء إلى الخلف.
كل هذا يرافقه جمال الطبيعة الخلابة ككثبان الرمال التي تمارس فيها كثير من الرياضات وخاصة رياضة التزحلق على الرمال وركوب الجمال وسباق الدرجات النارية، أضف إلى ذلك بساتين النخيل الموفورة الظلال التي ترافق الزائر على مسافة طويلة، إضافة إلى تشكيلة متكاملة من النقوش الصخرية الدالة على ارتباط الانسان بالمكان منذ القديم.
الاهتمام الحكومي
إنَّ التنسيق في استثمار هذا الموروث الثقافي (الرقصات الشعبية) وتوظيفه وفق النصوص التشريعية المعمول بها في مجال السياحة، يضمن المحافظة على الطابع التقليدي الخاص للموروث، كما يضمن تنمية سياحية مستدامة. وذلك بإسناد هذه الرقصات إلى جمعيات نشيطة، كل في مجاله، وإعطائها التسهيلات الممكنة التي تضمن اقتصاد المدينة.
وتشارك في إدارة المكان (أقصد مدن الجنوب الغربي) قطاعات أخرى تعمل بتنسيق وانسجام تامين بعيدا عن الإخلال بالتنظيم العام الذي يمكِّن من إعطاء صورة جيِّدة لجذب السياح وتوفير الراحة للزائرين والشعور بالألفة والاطمئنان والرغبة في إعادة زيارة المكان مرات عديدة فيصبح بذلك وسيلة إشهارية للمكان.
دون أن ننسى الدور الكبير المنوط بالبلديات في ترسيم التظاهرات السنوية سواء الموسمية أو السنوية والحرص على إنجاحها، وإحياء كل المناسبات والاحتفاليات المرتبطة بالمزارات، وربط علاقتها مع كل المؤسسات الثقافية، كالجامعة والمؤسسات التعليمية ودور الثقافة والمسرح والرياضة، لإقامة ندوات علمية ورياضية وثقافية، تزيد من نشاط المدينة واقتصادها.
ولم تغفل السلطات الجزائرية، ممثلة في مديريات الثقافة لولايات الجنوب، عن دعم أصحاب الحرف ماليا وفي مجالات أخرى، كتوفير الهياكل ودور الاستقبال من فنادق وبيوت الشباب وفتح فرص الاستثمار فيما ينمي هذا الموروث الثقافي في المكان، و توفير ما يحتاج الزائر من وسائل الراحة والأمن كالمطاعم التقليدية والحرص على تقدم وجباتها المحلية بطريقة تقليدية في أسلوب راقٍ، بالإضافة إلى المتاحف لعرض المنتجات التقليدية المتصلة بالرقص الشعبي ذات الطابع المحلي.
خاتـمة
إنَّدراسة الموروث الثقافي بشكل عام، أصبح ضرورة ملحة تفرضها متطلبات العصر وتطوراته، باعتباره عنصرا مهما في تثبيت هوية الشعوب وشخصيتها الوطنية، وراصدا لأهم محطات تاريخها، خاصة أحداثها الوطنية وعاداتها وتقاليدها، فهو تراث متنوع، لتنوع البيئة الإنسانية وتنوع الأهداف والمقاصد.
وفي هذا الإطار يمكن القول إِنَّ الرقصات الشعبية في حاجة ماسة إلى الاهتمام بها والمحافظة عليها، وتأهيلها بما يتوفر من آليات وإجراءات تُحْسِنُ استثمارها، وتكشف ثراءها ودورها في عملية التنمية السياحية المستدامة، وتثمين كل عمل فردي أو جماعي، يهتمّ بحمايتها واستغلالها لأجل الصالح العام، ومواجهة الأخطار والأفكار الساعية إلى تقويضها.
بيبليوغرافيا
أبوزيد، أحمد (1998). التراث الشّعبي... التجدّد الدّائم رؤية أنثروبولوجيّة، مجموعة كتاب الثقافة الغربيّة والتراث. الشّارقة : منشورات دائرة الثقافة والإعلام.
محبك، أحمد زياد (1999). حكايات شعبيّة "قصص". سوريا : منشورات اتحاد الكتاب العرب.
مرسي، أحمد علي (2008). الأدب الشعبي وثقافة المجتمع. مصر: دار مصر المحروسة.
بوشيبة، بركة (2010). ممارسات فلكلوريّة (رقصة هوبي الشّعبيّة أنموذجا). الثّقافة الشّعبيّة، (11).
بوشيبة، بركة (2015). تجلّي المرجعيّات الثقافيّة من خلال الفنّ الشّعبي (رقصات تبلبالة أنموذجا). مجلّة البحث الموسيقي، 14.
العنتيل، فوزي (1978). بين الفلكلور والثقافة الشعبية. مصر : الهيئة المصرية العامة للكتاب.
وزارة الثقافة الجزائرية (2011). موسيقى ورقصات تقليديّة. دائرة التراث غير المادّي والكوريغرافيا.
Funka, C.(2008) . Cinquante ans plus tard, Retour à Tabelbala. Anthropologie et musiques, (Série -6) .
الملاحق
الشكل 1 : رقصة هوبي
المصدر : المؤلف
Barka BOUCHIBA - بركة بوشيبة
الهوامش
[1] أستاذ بجامعة طاهري محمد، مخبر الدراسات الصحراوية، 08000، بشار، الجزائر.
[2] قبيلة عربية قدمت من الجزيرة العربية إلى بلاد المغرب العربي مع الحملات الهلالية، وأقامت بوادي قير- العبادلة ولاية بشار حاليا- بالجنوب الغربي الجزائري.
[3] اَلطَّارَة وَأَقَلَّالْ : آلات موسيقية محلية ترافق رقصة الحيدوس والماية.
Auteurs les plus recherchés
Articles les plus lus
- التراث الثقافي بالجزائر : المنظومة القانونية وآليات الحماية
- التّراث الشّعبي والتّنمية المستدامة. قراءة في الرّقصات الشّعبيّة
- Eléments d’histoire sociale de la chanson populaire en Algérie. Textes et contextes
- Les Turcs dans la poésie populaire Melhoun en Algérie. Emprunts et représentations
- Mot du directeur du CRASC